مبادئ نظم الحكم في الإسلام - د/ انس جعفر
س5 : ـ تكلم عن المقصود بالتشريع الاسلامى موضحا من هم اهل الرأى والاجتهاد والتشريع ؟ وهل يلزم الحاكم ان يلجأ اليهم للمشورة واخذ الرأى ؟ وماهى الآراء التى قيلت فى مدى الزامية الرأى الصادر منهم ؟
جـ 5 :
** المقصود بالتشريع :
1- إيجاد شرع مبتدأ. وهذا في الإسلام ليس إلا لله وبهذا المعنى لا تشريع إلا لله
2- بيان حكم تقتضيه شريعة قائمة. وهذا الذي تولاه بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم خلفاؤه من صحابته ثم خلفاؤهم من التابعين وتابعيهم من الأئمة المجتهدين فهؤلاء لم يشرعوا أحكاماً وإنما استمدوا الأحكام من نصوص القرآن أو السنة.
- وقد أيد هذا الرأي غالبية رجال الفقه إلا أن الدكتور مصطفى أبو زيد فهمي ذهب وبحق إلى أن هذين المعنيين يقصران تماماً في بيان المقصود من التشريع فالمعنى الأول أقرب في الدلالة على الرسالة السماوية كلها والمعنى الثاني أقرب للفتيا منه إلى التشريع، فإذا تصورنا التشريع وقد اقتصر على هذين المعنيين وحدهما أمكن أن يتولاه المجتهدون وأهل الفتيا وحدهم فالمجتهدون هم الذين يوضحون للناس الحكم الشرعي لأمر معين. ولكن بعد أن وضح الحكم الشرعي للأمور وأرادت الأمة أن تأخذ بهذا الاتجاه أو ذاك فإن الأمر قد يقتضي أن يصدر قانون يحدد ما استقرت عليه الأمة من قواعد، وهذا هو التشريع بالمعنى الدقيق.
ثم ذكر معنى ثالث هو بغير شك أدق المعاني الواضحة لكلمة التشريع وهو: (وضع القواعد المنظمة لشتى مجالات الحياة في المجتمع سياسياً واقتصادياً واجتماعياً)
- وعلى هذا النحو فالمقصود بالتشريع في الإسلام يكون أحد أمور ثلاثة:
1- إيجاد شرع مبتدأ وهو لا يكون إلا لله
2- بيان حكم تقتضيه شريعة قائمة
3- وضع القواعد المنظمة لشتى مجالات الحياة
** من هم أهل الرأي والاجتهاد والتشريع :
أهل الرأي والاجتهاد والتشريع هم الأشخاص الذين يستطيعون إبداء الرأي واستنباط الحكم من الأدلة الشرعية ووضع القواعد المنظمة لحياة الأفراد في المجالات التي ليس بها شرع مبتدأ من الله تعالى. لهذا تنحصر مهمة الاجتهاد في فئة معينة هم الفقهاء الذين يستطيعون استنباط الأحكام العملية من أدلتها الشرعية، وعلى ذلك فالاجتهاد حق ثابت لكل من له أهلية النظر والبحث بصرف النظر عن جنسه (أي يستوي أن يكون رجلاً أو امرأة) وبصرف النظر عن وظيفته (من الحكام أم من غيرهم من الأفراد) والسؤال هو: متى يكون الشخص له أهلية النظر والبحث في استنباط الأحكام من أدلتها؟ يكون الشخص أهلاً لذلك إذا توافرت فيه شروطاً معينة حسبما أجمع عليها الفقهاء وهي:
1- العلم بكتاب الله وما تضمنه من أحكام ناسخاً ومنسوخاً ومحكماً ومتشابهاً وعموماً وخصوصاً ومجملاً ومفسراً وظاهراً وخفياً
2- العلم بالسنة النبوية من أقوال وأفعال وطرق مجيئها بالتواتر أو المشهور أو الآحاد
3- العلم بأقوال السلف فيما أجمعوا عليه واختلفوا فيه وذلك لتتبع الإجماع والاجتهاد في حالة الاختلاف
4- العلم بالقياس الموجب برد الفروع المسكوت عنها إلى الأصول المنطوق بها
5- القدرة على فهم مقاصد الشارع من تشريع الأحكام والعلل والحكم التشريعية التي قرنها الشارع بكثير من هذه الأحكام
- كما أوضح العالم الماوردي أنه يجب فيمن يستشار أن تتوافر فيه خمس خصال:
الأولى: عقل كامل مع تجربة سالفة فإنه بكثرة التجارب تصح الرؤية، فكل شيء يحتاج إلى العقل، والعقل يحتاج إلى التجارب
الثانية: أن يكون ذا دين وتقى فإن ذلك باب كل نجاح
الثالثة: أن يكون ناصحاً ودوداً فإن النصح والمودة يصدقان الفكر
الرابعة: أن يكون سليم الفكر من هم قاطع وغم شاغل فإن من عارضت فكره شوائب الهموم لا يسلم له رأي
الخامسة: أن لا يكون له غرض ولا هوى في الأمر المستشار فإن الرأي إذا عارضه الهوى وجاذبته الأغراض فسد
** التجاء الحاكم إلى أهل الرأي والمشورة :ـ
هل يجب على الحاكم أخذ الرأي والمشورة في المسائل التي تهم المسلمين أم لا؟
أختلف الرأي بالنسبة لهذه النقطة على النحو الآتي:
- ذهب رأي مرجوح إلى أن الشورى مندوبة فقط: استناداً للأدلة الآتية:
1- أمر الله للرسول صلى الله عليه وسلم باتباع الشورى كان الغرض منه إرضاء نفوس بعض المسلمين، وتآلف قلوبهم.
2- الشورى لا تكون إلا في الأمور المباحة فالله تعالى مدح المشاورة في الأمور، ومدح القوم الذين يطبقون ذلك والمدح قرينة الندب
3- يضيف لذلك الأمام الشافعي قياس الآية (وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ) على ما ورد بالحديث الشريف (البكر تستأمر في نفسها) فلو أن الأب أكرهها على الزواج فإن ذلك أمر جائز ولكن الأولى تطييبا لنفسها أن يأخذ رأيها فكذا في الآية الكريمة، وعلى ذلك فإن من استشار يثاب ومن ترك الاستشارة لا يعاقب.
- ذهب رأي آخر راجح إلى أن الشورى واجبة: والدليل على ذلك:
أولاً: من القرآن الكريم:
1- (وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ) أي أن الله تعالى يأمر رسوله الكريم بمشاورة أصحابه وإذا كان الأمر كذلك بالنسبة للرسول صلى الله عليه وسلم فإنها تكون واجبة من باب أولى على كل حاكم إسلامي.
2- (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ) فقد وردت هذه الآية في سورة الشورى بين فرضين لازمين هما الصلاة والزكاة، قال تعالى (وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ) ويضيف الإمام محمد عبده إلى هاتين الآيتين الكريمتين للتدليل على أن الشورى واجبه وليست مندوبة قوله تعالى (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ) ذلك أن الآية التي وردت في سورة الشورى تبين أن التشاور في الأمور وصف ممدوح عند الله تعالى والآية التي وردت في سورة آل عمران توجب على الحاكم المشاورة.
ثانياً: من السنة النبوية الشريفة:
روي عن الرسول الكريم العديد من الأحاديث التي تدل على وجوب الشورى منها:
- قوله صلى الله عليه وسلم: (ما تشاور قوم إلا هدوا لأرشد أمرهم)
- قوله صلى الله عليه وسلم: (ما استغنى مستبد برأيه وما هلك أحد عن مشورة)
- روي عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: (لم يكن أحد أكثر مشورة لأصحابه من رسول الله صلى الله عليه وسلم.. وهكذا تتعدد الأحاديث النبوية الشريفة التي يستدل منها على وجوب الشورى بالنسبة للحاكم، بجانب كل ما سبق فإن الرسول صلى الله عليه وسلم ومن بعده الخلفاء الراشدون كانوا يستشيرون أهل الرأي في العديد من الأمور.
** مدى إلزامية الرأي الصادر من أهل الاجتهاد والمشورة :
الرأي الأول:
الشورى ليست ملزمة: ذهب رأي إلى أن الشورى ليست ملزمة ولا يجب على الحاكم الأخذ برأي أصحاب الشورى وإنما هو ملزم فقط بمشاورتهم ثم ينفذ ما يراه راجحاً لديه، ويستند هذا الرأي إلى الحجج الآتية:
1- ما ورد في نهاية آية الشورى التي جاءت في سورة آل عمران (وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ) وقد ورد في تفسير الطبري: قال قتادة: أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم إذا عزم على أمر يمضي فيه ويتوكل على الله لا على مشاورتهم ويضيف الطبري في تفسيره أن الله تعالى يقول للرسول صلى الله عليه وسلم: إذا ما صح عزمك بتثبيتنا إياك وتسددينا لك في أمر دينك ودنياك فامض لما أمرناك به، وافق ذلك أراء أصحابك وما أشاروا به عليك أو خالفهم، وعلى ذلك فإن الحاكم له أن يخالف أعضاء مجلس الشورى ويقضي برأيه.
2- بالإضافة لذلك فقد استند هذا الرأي إلى أن الرسول عليه الصلاة والسلام استشار أصحابه في بعض الأحيان ولكن لم ينفذ يأخذ برأيهم، ومن الأمثلة على ذلك: واقعة أسرى غزوة بدر الكبرى فقد كان بعض الصحابة وعلى رأسهم عمر بن الخطاب وكان رأيهم قتل الأسرى ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يأخذ بهذا الرأي بل أخذ بالرأي الذي اطمأن إليه هو وأبو بكر الصديق وهو قبول الفداء من الأسرى.
- كما أن الرسول صلى الله عليه وسلم عقد صلح الحديبية مع قريش رغم أن جمهور الصحابة لم يكن موافقاً عليه
- وحقيقة الأمر أنه بالنسبة لهذين المثلين لا يجوز الاعتماد عليهما للتدليل على أن الشورى ليست ملزمة بالنسبة للحاكم لأنه بالنسبة لواقعة أسرى بدر فإن الصحيح أن ما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم من قبول الفداء من الأسرى كان رأياً لعدد كبير من الصحابة، وليس رأي أبو بكر والرسول فقط. أما بالنسبة لصلح الحديبية فقد كان بوحي من الله تعالى ومن ثم فإنه لم يكن محلاً للشورى
الرأي الثاني:
الشورى ملزمة: يرى أصحاب هذا الرأي وهم أغلبية أن رئيس الدولة يجب أن يتقيد بالرأي الذي يشير إليه أهل الشورى وإلا كانت الشورى لا فائدة منها. معنى هذا أن الشورى ملزمة والدليل على ذلك:
1- قول الله تعالى (وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ) يدل أولاً على ضرورة المشاورة في الأمور العامة، وثانياً على اتباع الرأي الذي صدر من أغلبية أصحاب الرأي، لأنه متى صدر عن الأغلبية فإنه يحصل به الترجيح بسبب أن الجمهور أبعد عن الخطأ من الفرد ولا يتعارض ذلك مع قوله تعالى في نهاية الآية (فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ) أي لا تتوكل على مشاورتهم لأن التوكل لا يكون إلا على العلي القدير
2- إذا كان معلوماً لدى أهل الرأي والشورى أنهم إذا بذلوا جهودهم في استنباط حكم ما تم استشارتهم فيه ثم لا يأخذ بهذا الرأي ولا يلقى قبولاً فإن ذلك فيه إضرار بأهل الرأي والمشورة لإعلامهم بأن آراءهم غير مقبولة ولا معمول بها.
3- إذا لم يكن لرأي أهل الرأي والشورى قيمة ملزمة فلن يكون للشورى أي معنى من الناحية العلمية، يضاف لذلك التطبيقات العملية للشورى في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين فقد طبقوا مبدأ الشورى والتزموا بالعمل به
الرأي الثالث:
للفقيه ابن تيمية: ذهب ابن تيمية في خصوص مدى إلزام الشورى للحاكم أن الحاكم إذا استشار أهل الرأي والمشورة فإن بين له بعضهم ما يجب اتباعه مستنداً إلى كتاب الله أو سنة رسوله أو إجماع المسلمين فعليه اتباع ذلك ولا طاعة لأحد في خلاف ذلك قال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ) وإن كان أمراً ليس مستنداً لدليل قطعي الثبوت والدلالة فينبغي أن يستخرج من كل منهم رأيه ووجهة نظره ويكون للحاكم أن يتخير من الأراء ما يراه سليماً ولا يكون ملزماً باتباع رأي أهل الشورى.
الرأي الرابع:
للدكتور مصطفى أبو زيد فهمي: يميز الدكتور مصطفى بين الشورى كأساس من أسس الحكم في الإسلام، والشورى كأساس لفن الحكم في الإسلام. ويوضح الفارق بينهما بقوله (إن الشورى كأساس من أسس الحكم تكفل للشعب أن يكون صاحب الكلمة الأخيرة في شئون الحكم يخضع لمشئيته الحكام جميعاً، ويلتزمون بتنفيذ إرادته. أما الشورى كأساس لفن الحكم فإنها تواجه الحاكم وقد استقر في منصبه كيف يحكم وكيف يتصرف ويقود، بالنسبة للصورة الأولى (كأساس من أسس الحكم) فلكي يكون الأمر شورى يجب أن يكون القرار قد صدر بناء على الشورى الأمر الذي يتعين معه أن تكون نتيجة الشورى ملزمة، أما إذا كانت نتيجة الشورى غير ملزمة للحاكم وكان في وسعه أن يأخذ بها أو يطرحها جانباً فإن الأمر حينئذ لا يمكن أن يكون شورى بين المواطنين بل يوصف بأنه احتكار للحاكم وانفراد بسلطة التقرير، وبالنسبة للصورة الثانية (الشورى كأساس لفن الحكم) يأبى المنطق السليم لفن الحكم وفن الإدارة أن يجرد الحاكم من كل إرادة ذاتية فالحاكم إنما يستشير وأما القرار بعد ذلك فهو قراره وحده فالشورى هنا تنير الطريق أمام الحاكم وتبقي له سلطة إصدار القرار فهو الذي يوازن ويرجح بين شتى الآراء ويختار أكثرها تحقيقاً للمصلحة العامة في اعتقاده
*- نحن نرجح الرأي الثالث الذي قال به بن تيمية :ـ لأن الشورى دائماً واحدة في الإسلام ويجب أن تدور في فلك المشروعية. معنى ذلك أننا نرى أنه يجب التفرقة بين حالتين:
الحالة الأولى: أن يكون الرأي الذي صدر من أهل الرأي والشورى له سند من الكتاب أو السنة أو الإجماع فعلى الحاكم أن يلتزم بتطبيق هذا الرأي ويعتبر الرأي ملزماً بالنسبة له. فهنا نقول أن الشورى ملزمة.
الحالة الثانية: أن يكون الرأي الذي صدر من أهل الرأي والشورى ليس له سند من الكتاب أو السنة أو الإجماع. فإن الحاكم لا يكون ملزماً بتطبيقه.
*** موضوع الشورى وأخذ الرأي :
يقصد بموضوع الشورى وأخذ الرأي الأمور التي تجري فيها الشورى. فهل يجب على ولي الأمر أن يرجع إلى الشورى في جميع المسائل أم أن ثمة مسائل محددة هي التي يجوز له الرجوع إليهم فيها؟
- ذهب رأي ضعيف إلى أن الشورى لا تكون إلا في أمور الحرب لأن الشورى التي أجيزت لرسول الله صلى الله عليه وسلم كانت خاصة بالحروب، ويستند أنصار هذا الرأي إلى قول الحق تعالى في سورة آل عمران (وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ) والألف واللام في لفظ (الأمر) ليس للاستغراق لأن الرسول عليه الصلاة والسلام لايجوز له الاستشارة فيما نزل عليه وحي، والحقيقة أن اللفظ في الآية الكريمة عام فتبقى له حجيته فيما عدا ما نزل فيه وحي، كما أن هذا الرأي يتعارض مع الآية التي وردت في سورة الشورى، فهذه الآية (كما سبق توضيحه) تجعل الشورى دعامة من الدعائم التي يقوم عليها الإسلام
- نتيجة لذلك فإن الرأي السليم والراجح والذي عليه شبه إجماع أن الشورى تكون في جميع الأمور، غير أنه يجب مراعاة أن الشورى لا تكون في المسائل التي ورد بها نص في القرآن أو السنة لأن ما ورد بهما يعتبر تشريعاً ملزماً دون استشارة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق